كتب : د. محمد سعد نائب رئيس اتحاد الجامعات الدولي للشؤون المالزية .

الكون يستجيب دائمًا لمن يريد التغيير ويعمل له، فالله تعالى أجرى سننه في الخلق: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. هذه ليست مجرد آية للوعظ، بل قاعدة كونية، قانون من قوانين العمران البشري. أراد الله أن تكون الأرض معمورة، وأن يُستخلف الإنسان فيها ليقيم العدل ويحقق التنمية.
وليس على وجه الأرض مكان فقير أو محروم؛ فكل بقعة أودع الله فيها أقواتها ومواردها، لكنها قد تُعطَّل بفعل الجهل، أو الفساد، أو التآمر، أو الخيانة.
الخيانة الكبرى:
وأعظم خيانة للوطن أن يُوَلَّى أمره قليلو الهمة، ضعيفو الإرادة، بطيئو الفهم، عديمو الرأي، سيئو السمعة. فالتاريخ يثبت أن الأمم التي أقصت نجباءها وأبعدت شبابها الموهوب، وسلمت زمامها لغير الأكفاء، كانت دولًا منهارة إلى الهاوية، مهما امتلكت من موارد.
النموذج النبوي:
الرسول ﷺ كان يبحث عن الكفاءات بين صحابته، ويُبرز نجباءهم:
ولّى أسامة بن زيد شاب لم يبلغ العشرين قيادة جيش فيه شيوخ المهاجرين والأنصار.
أرسل مصعب بن عمير معلمًا ومربيًا في المدينة وهو شاب في ريعان عمره.
استعمل معاذ بن جبل قاضيًا ومفتيًا وهو من أصغر الصحابة.
فلم يكن العمر حاجزًا، ولا العائلة معيارًا، بل الكفاءة والهمة والصفاء.
وسار على نهجه المصلحون الكبار عبر التاريخ، من المسلمين وغير المسلمين.
سنن الحضارات الحديثة:
الدول التي تنهض اليوم لا تخشى تمكين المهاجرين أو الأقليات أو الشباب الموهوب:
أمريكا سمحت لأفريقي الأصل أن يصبح رئيسها باراك أوباما ثماني سنوات.
بريطانيا يتولى رئاستها اليوم مهاجر هندي الأصل ريشي سوناك .
في فرنسا وزراء ورؤساء شركات من أصول لبنانية ومغاربية.
أحد أبرز المنافسين على منصب رئيس وزراء بريطانيا عراقي مهاجر.
أغنى رجل في العالم اليوم إيلون ماسك، من جنوب أفريقيا في الأصل.
هذه النماذج تؤكد أن الحضارة والقيادة ضالة كل حصيف، يبحث عنها حيثما وجدها.
الواقع المصري: الفرص الضائعة
الأرض الخصبة التي يمكن أن تجعل مصر سلة غذاء العالم العربي.
الشباب المتعلم الذي يُهاجر ليبدع في الخارج ويُقصى في الداخل.
الموقع الجغرافي الذي لم يُستثمر كما ينبغي ليكون محور تجارة عالمي.
الموارد الطبيعية غاز، طاقة شمسية، معادن التي لا تزال أسيرة الفساد وسوء الإدارة.
طريق التغيير:
إطلاق الطاقات الشابة وتمكين الموهوبين في الدولة والإدارة والاقتصاد.
تطهير المؤسسات من الفساد والولاءات الضيقة.
ربط التعليم بسوق العمل، ودعم الابتكار وريادة الأعمال.
إحياء ثقافة الكفاءة: لا مكان إلا للأجدر، لا للأقرب أو الأعرف.
توزيع عادل للموارد، وتحويلها إلى مشروعات إنتاجية مستدامة.
الكبرياء الموهوم وانحصار السلطة: أصل الشقاء العربي
من أهم عوامل شقاء الأمة العربية أن الحكم والإدارة كثيرًا ما انحصرت في فئة بعينها، ليست بالضرورة الأجدر ولا الأكفأ، وإنما هي الأقرب نسبًا أو حلفًا أو مصلحة. وقد أُعطي هؤلاء موقع القيادة رغم قلة حكمتهم وضآلة مواهبهم، فانعكس ذلك على الأمة ضعفًا وتراجعًا وانقسامًا.
لقد وُجد في طول البلاد العربية وعرضها عباقرة ومفكرون ومصلحون، قادرون على حمل الأمانة وتوجيه الطاقات نحو النهضة، لكنهم لم يُتح لهم المجال، إذ لم يكن الحظ ولا القرابة ولا الرعاية السياسية إلى جانبهم. في المقابل، صعد إلى السلطة والإدارة أناس حُرموا من مقومات القيادة، فطغى على الأمة منطق المحاباة بدلًا من منطق الكفاءة، وسيطر التوريث على حساب التداول، وغلبت العصبية على حساب العدالة.
هذا الكِبْر السياسي والاجتماعي الذي مارسته الطبقات الحاكمة لم يكن مجرد خطأ إداري، بل كان سببًا مباشرًا في إغلاق أبواب الإصلاح وتجديد الدماء، وحرمان الأمة من الاستفادة من طاقاتها الحقيقية. وهكذا تكرر عبر القرون مشهد “الأمة الغنية بالعباقرة، الفقيرة بالقيادات”، مما صنع فجوة مأساوية بين الإمكانات البشرية الهائلة والواقع السياسي والاقتصادي العاجز.
ولعل ابن خلدون نفسه أشار إلى خطورة مثل هذه الممارسات حين اعتبر أن العصبية أساس الملك، فإذا تحولت العصبية إلى كِبْر واستعلاء وانحصرت في فئة قليلة، ضعفت الدولة من داخلها وفقدت مقومات بقائها.
الأمل:
إن مصر ليست دولة فقيرة، ولا عاجزة، لكنها أمة مُعطَّلة تنتظر من يطلق طاقاتها. وإذا غيرنا ما بأنفسنا من سلبية ورضا بالواقع، إلى عمل وبذل وإصلاح، فإن الله سيغير حالنا إلى الأفضل. والتاريخ يشهد أن هذا الشعب الطيب المتدين، حينما ينهض، يبهر الدنيا كما فعل أجداده الذين علموا الدنيا معنى الحضارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *